2011/06/29

ذكـرى الـرحـيــــل



شذرات
قلم

ذكـرى الـرحـيــــل

رحيل أبا مرام الدكتور
عبدالرحمن بن سليمان المطرودي – رحمه الله –
27/7/1431هـ


الرحيل ... سنة الله في خلقة.


يرحلون ... آباء وأبناء وأقارب وأصدقاء وزملاء ومشاهير ونحن من بينهم راحلون.

كانوا بيننا وأمام أعيننا فرحلوا وهم في قلوبنا باقون ... لم ولن ترحل ذكراهم العطرة.

فمكانتهم وحدها تجعلنا نذكرهم لنستعيد بالذكريات شيئًا مما اتصفوا به وكانوا عليه إلى فضاء الروح ووجفات القلب النابض بذكراهم الباقية.

ولعل ممن نتذكره هذا اليوم
أبا مرام فضيلة الشيخ الدكتور
عبدالرحمن بن سليمان بن عبدالرحمن المطرودي
وكيل وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
لشؤون الأوقاف
– رحمه الله –

الذي رحل عنا في مثل هذا اليوم السابع والعشرين من شهر رجب من العام المنصرم 1431هـ؛ فرغم ما مضى من زمن على رحيله فلم تزل ذكراه باقية وستبقى ما حييت – بإذن الله – فلن تمحوها صوادف الحياة وبهارجها الفانية.

فكل من عرف أبا مرام – رحمه الله – لم يشعر أنه غريب عنه أو أن بينهما حواجز، أو أنه حاد المشاعر أو ضيق الخلق، أو أنه متعالي على الناس أو أنه يمل من أحد، وهذا لما كان عليه – رحمه الله – من خلق رفيع وتواضع حقيقي دون تصنع أو تكلف، فكم كان متواضعًا إلى أبعد الحدود؛ بل أنه أوجد مفهومًا جديدًا للتواضع في ميدان العمل والمسؤولية، فلم يكن يحب أن يظهر اسمه أو أن يبرز في أي عمل أو ميدان، بل كان يحب أن تذكر أسماء الآخرين على الأعمال وإن كان هو من قام بها حبًا ودعمًا وتشجيعًا لهم للبذل والعطاء.

إنسانًا يملك قلبًا رقيقًا مليئًا بالمودة والحب؛ حيث كانت تربطه علاقات قوية ومتينة مع كل الناس، فوصل إلى القلوب دون أي تكلف بل بالحب والمحبة، وعدم الغرور بزخارف الحياة الفانية والزهد فيها، وشكر المنعم على ما به من نعمه دون غيره من الخلق.

يجيد لغة الحوار وفنونه، وأسلوب النقاش والإقناع بالدليل القاطع والحجة الواضحة، دون أي إسفاف برأي المقابل، أو تخلق الأعذار عندما يكون يعرف أنه على خطأ، أو يكابر للانتصار لرأيه؛ بل كان يحاور من أجل الوصول للحق والحقيقة دون الانتصار للذات، فهو يمتلك لغة تخاطب قوية واضحة ومختصرة وشديدة التماسك خالية من الحشو الزائد.

دائمًا ما يرشد كل صاحب حاجة إلى باب قاضي الحاجات الذي بيده طب القلوب وبسلم الصدور وراحة النفوس الحائرة، باب الخالق – سبحانه وتعالى –.

فهو يقرأ ما يدور في بالك وما تود البوح به من نظراتك وما تحكيه العيون قبل الألسن، إنه ذو فراسة تجعله يستجلي ما يخالج وما يدور في خاطرك؛ لذا كان يختصر على القائل المسافات ويدخل في الموضوع الذي يريد البوح به من دون أن يقول ما يحرج المقابل له، وذلك لأنه يقدر الناس ويبادر في تقديم التضحية لهم؛ فكيف إذا كان هذا الإنسان إنسان يستحق التضحية، وكل ذلك دون مقابل أو رجاء رد جميل، وفي الوقت ذاته كان – رحمه الله – لا يحمل على من أساء إليه، وإنما كان يقول غفر الله لي ولهم، ويبادلهم الإساءة بالإحسان ويبادرهم بالمصافحة والابتسامة والسلام، لأنه يعلم بأن هذا باب من أبواب الدين وطريق يؤدي بصاحبه للجنة.

كم يجيد فن الصمت والسير دون ضجيج لمن حوله لينعموا بالسعادة مع ما به من عناء ونصب وتعب، ولعل هذا يتأكد لما كان يعاني منه في وظيفته من حمل وجهد زائد عن حده تحمله دون أن يشكو لأحد ما يعانيه، فقام بواجبات وظيفته بين أكثر من وكالة لكل منها حمل يساوي الجبال؛ نهض بها بكل صمت حتى لا يضايق غيره من المسؤولين والموظفين لتتحقق لهم الراحة والسعادة.

عامل – رحمه الله – الناس بالطيبة والاحترام والتقدير والأخلاق الفاضلة والحسنة وبالحب والعطف والحنان وبالسمت الراقي وحسن الحوار والأدب وانتقى الألفاظ الراقية، دون النظر إلى ما يعاملونه به، لأنه عاملهم بالخلق الذي يحب أن يعاملونه به، فطبق ذلك على نفسه قبل أن يطلبه من غيره، لأنه يعلم أنه عار أن تطلب من الناس أمرًا أنت بعيد عنه، فكان هذا كنز عظيم أنفرد بامتلاكه، مبتعدًا في ذلك كله عن التصنع في التعامل والتصرف في كل المعاملات مع من أمامه.

ذو هيبة ووقار، وملم بالأنظمة والقوانين المحلية والدولية، يعشق القراءة؛ فكم كان قارئًا نهمًا، يمتلك ذاكرة قوية ونظيفة لا تشوبها أي عوالق أو ضبابية.

كم كان وجهه – رحمه الله – يشع نورًا وتعلو محياه ابتسامة عريضة ورقيقة جاذبة للقريب والبعيد، لا يعرف وجهه التجهم ولا لبس الأقنعة المخادعة، بل هو نظر الوجه محب لأهل الخير وأعمال الخير والسير فيها دون أي ضجيج إعلامي أو تفاخر في المجالس بعمل هذا ومساعدة ذاك، كان يعمل على مساعدة الآخرين بكل صمت وكتمان حتى لا يجرح مشاعر أحد ولا يؤذي أحد ويتحمل كل ما يترتب على ذلك من ألم ووجاهة وأذى قد يلحق به ممن سعى لهم بالخير.

لا يحب – رحمه الله – عدسات الإعلام ومنابره، يعمل بجد وصمت خلف الكواليس دون أن يظهر اسمه أو صوته في أي عمل يقوم به من الألف إلى الياء.

فلكل هذا وغيره كثير ... يحق لي في هذا اليوم أن أتذكره – رحمه الله – وإن لم أنسى على مدى عام مضى تلك اللحظات المؤلمة التي تلقيت فيها نبأ وفاة أخ وصديق وأب وابن عم ومجموعة علاقات قل وندر أن تجتمع في شخص رجل واحد، إلا أنها تحققت في شخص هذا الإنسان الذي بكته القلوب قبل العيون ولا زالت تبكيه وأظنها ستبقى تبكيه ما دمنا على قيد الحياة.

لا نبكيه – رحمه الله – اعتراضًا – حاشى الله أن نعترض على أمر قضاها الله سبحانه وتعالى – ولكن نبكيه لما كان عليه من خلق وأخلاق وتعامل وتواصل وحب للخير وسعي فيه وتحمل مسؤولية واهتمام بكل شأن مهما صغر وقل حجمه إلا أنه كان يعطي كل أمر قدره، ويضفي عليه لمسات الحنان والمحبة وسط ضجيج الحياة وزحام ميادينها وشوارعها وأزقتها المختلفة.

الشوق لرؤيته – رحمه الله – يزيد يومًا بعد يوم ولحظة بعد لحظة، بل في كل ساعة نعرف بها حقيقة لم نكن نعلمها عنه من أعمال الخير والبر والإحسان والتعامل الفذ والفريد، لتزيد تلك الأحداث والمعلومات من معاناة ذكراه العطرة الجميلة التي ارتبطت بنبضات قلوبنا لتزيد من ضخ مشاعر المحبة له والعمل وفاء له للسير في الطريق لذي رسمه وتمنى لنا السير فيه.

أبا مرام هكذا كان يحب أن نناديه، ويعشق أن نناديه بهذه الكنية الجميلة والمحببة لقلبه – رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة – كم أتذكر أيام ولحظات جلستها معه في ميدان العمل وخارجه، فما ينصح به كان يطبقه على نفسه قبل أن ينطق به لسانه ناصحًا، ليمازج في ذلك بين القول والعمل تطبيقًا واقعيًا.

رحل وحلمه كبير في اتجاهات عدة، كان يحرص على تطبيقها وتحققها لينعم بالراحة بعد ذلك، إلا أن إرادة الله – عز وجل – لم ترد أن يكتمل هذا الحلم الذي كان يطمح إلى تحقيقه – رحمه الله – .

نعيش ذكراك يا أبا مرام، وإن كان الألم يعتصرنا والحزن يلازمنا، ولكن بعيدًا عن البكاء أو التخاذل والكسل، بل هي ذكرى حب ووفاء لك، لتكون ابتسامتك المعهودة وكلماتك الصادقة لنا شمعة تضئ لنا الطريق لنسير فيه دون اعوجاج وانحراف عن الهدف الطموح الذي ارتأيته ورسمت صورته الجميلة في أفق النجاح والتفوق والإبداع.

ولا أقول أن فراقك لم يترك أثرًا فينا، بل كسر ظهورنا، ولكن ما زرعته فينا يجعلنا نصر على المقاومة والعمل الجاد دون كلل أو ملل.

ثمار الأرض تجنى كل موسم
لكن ثمار الصداقة تجنى كل لحظة

إنها ذكرى صعبة ومؤلمة للغاية تلك التي تكتب فيها عن عزيز على قلبك ترك أثرًا وإرثًا كبيرًا من العطاء الصادق والتضحية الفذة والفريدة لا تعوض ولا تقدر بأي ثمن.

ففي مثل هذا اليوم فقدنا علمًا من أعلام بلادنا وأمتنا البارزين، الذي كانت له مواقف مشرفة في كل الميادين، وكانت له السمعة المتميزة الطيبة، وكانت له الأعمال الجليلة في خدمة الإسلام والمسلمين، وأمضى سنوات حياته في خدمة الوطن وحبه له وولائه لقيادته، وإخلاص وتفاني قلما نشاهد مثله، فقد تحمل مسؤوليات عدة وحرص على أداءها بكل أمانة ونزاهة وورع إلى أبعد الحدود.

كان أبًا وأخًا وفيًا للفقراء والمحتاجين والمعوزين من الشباب والنساء والمطلقات والأرامل والأيتام، كان مربيًا ومعلمًا؛ فقد تتلمذ على يديه العديد ممن عرفوه ليتخرجوا من جامعته في التعامل والأخلاق والأدب والإدارة وحسن التعامل وسعة الصدر وتحمل الأذى ومقابلة القبيح بالحسن والعبوس بالابتسامة الصادقة التي لم تفارق محياه حتى بعد أن فارق الحياة، أحب الجميع فأحبوه، ساعد كل من طلب المساعدة فأسرهم بسعيه لقضاء حاجاتهم حبًا خالصًا لوجه الله تعالى.

فلم يبكيه من بكاه – رحمه الله – وهم كثيرون ممن عرفوه ومن لم يعرفوه إلا لما تميز به من خصال وأخلاق أجبرتهم على حبه وبكاءه حتى الساعة.

في ميدان العمل لم يكن وكيل وزارة أو مدير إدارة أو مسؤول على كرسي المسؤولية فحسب؛ بل كان أخ وصديقًا وزميلاً محبًا محترمًا للجميع، فأحبه واحترمه جميع من عملوا في الوزارة، لم يكن يفرق بين موظف وآخر، ولا بين مسمى وظيفة ومهامها ووظيفة أخرى، كان إنسانًا يعامل الجميع بكل حب وإنسانية.

لقد طبق مقولته المشهورة ( كن من يحمل الكرسي، لا من يحمله الكرسي، لأنك إن حملته حملك، وإن استرخيت إليه فإنه لن يحملك، فهو كرسي حلاق لا يجلس عليه أحد طويلاً وإن تأخر في الجلوس فإنه لن يدوم لذا فأحرص أن تترك الكرسي وأنت حامل له) ..

رحم الله أبا مرام رحل واقفًا كالأشجار، فلم يكن كرسي الوظيفة الذي جلس عليه حاملاً له؛ بل كان هو من يحمل الكرسي، لقناعته بأن الكرسي "دوار" وأنه "مسؤولية عظيمة، وأمانة في عنقه مسؤول عن واجباته ومسؤولياته أمام الله قبل أن يسأله المسؤول عن ذلك" فمن منطلق تلك القناعة كان يتعامل معه، فكان رحمه الله جادًا في أداء مهام وظيفته، مخلصًا في إعداد خطط العمل والعمل على تنفيذها، ولم يركن إلى الدعة والسكون، والاستسلام لمخدر الكرسي الذي عادة ما يسيطر على من جلس عليه.

لنجد بعد وفاته مبادرة كثير من محبيه في تخليد ذكراه ببناء وتشييد أكثر من مسجد في عدد من مدن المملكة لتحمل تلك المساجد اسمه – رحمه الله – تقديرًا له لأنه لم يكن يرضى أو يقبل أن يبرز أسمه أو أن يحمل أي معلم اسمه عندما كان على قيد الحياة.

لقد غرس في الوجدان أعمق المعاني، ونحت في نفوسنا أخلاقيات لا تتجلى مع الأيام.

تمر علي ذكرى رحيلك ولكنني متأكد بأنك لا تزال بيننا وإن غادرنا جسدك إلا أن ما زرعته فينا لا يزال يشع فينا الروح والأمل.

أسأل الله العلي القدير أن يتغمده بواسع رحمته وأن يسكنه فسيح جنانه وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة وأن يجعل ما قدمه من خير شاهدًا له وشفيع له وأن يجعله ممن يأخذ كتابه بيمينه وممن يردون الحوض المورود وأن يعلي منازله في الجنة وأن يجمعنا به مع النبيين والصديقين والشهداء، إنه – عز وجل – سميع مجيب الدعاء، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛؛؛



شذرات بقلم
المحب المقصر لأبي مرام
أبوعبدالعزيز
سليمان بن صالح المطرودي
المهـ رحال ـاجر
الرياض
27/7/1432هـ

نشرت في صحيفة الجزيرة
يوم الجمعة الموافق 7/8/1432هـ
صفحة 17 متابعة
http://www.al-jazirah.com/20110708/fe12d.htm